بناء الدولة الوطنية أزمة سؤال ؟ أم أزمة مأسسة ؟

ذ . بوناصر المصطفى
على الرغم من مرور زمن طويل على تكوين دويلات عربية واخرى غير عربية مع بعض محاولات كل منها الانفلات من حبال السيطرة الغربية، إذ لا زالت إشكالية بناء هذه الدول بالمنظور الحديث تلقي بظلالها على نقاشاتها الفكرية ؟ ولم تستطع عبر طول مسارها التاريخي الابتعاد عن نظمها البائدة ديكتاتورية أو تيوقراطية… ، لتكوين منتظم سياسي يؤمن بالتعددية والاختلاف ويساير كل التطورات الفكرية. يقول ابن خلدون : “إن الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة لا يهمه سوى اللقمة والغريزة ” ، “وان المغلوب مولع ابدأ بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب أن النفس تعتقد الكمال في غلبها”
لكن كل رؤى هذه الدول بقيت إما سجينة كواليس الماضي ؟ أو أنها متشنجة لكل ما هو أصيل و هوياتي ؟
في محاولة تصنيف الدولة المغربية، قد يصعب أيجاد ملامح اقرب إليها ضمن النماذج والتحديدات المفاهيمية للدولة الحديثة ، فالدولة المغربية في بنيتها تخرج عن كل أشكال الدولة فلا هي بالوحدوية ولا هي بالدولة الاتحادية ولا الكونفدرالية ،لكن يمكن اعتبارها اقرب ما تكون لبعض الخصائص المحددة للدولة التقليدانية ،سواء بمفهوم ميكيافيلي الذي حدد مهامها الأساسية في مركزة القرار السياسي ، والجمع بين السلطة الروحية والسلطة المدنية ،وبدلك اعتبر المؤسس الأول، لمبدا فصل الدين عن الدولة ،في انتقاده المركز للكنيسة الكاثوليكية ، أو كارل ماركس الذي اعتبرها كأداة عنف من الواجب تجاوزها والتخلص منها ومن جبروتها، أو ماكس فيبر الذي وصفها بالمؤسسة المحتكرة للعنف من الواجب التعرف على حدود هذه السلطة مع وجوب الطاعة.
إذا كانت كل هذه التعاريف الكلاسيكية ،قد حصرت الدولة في منظور تقليدي خاص يحصر دور المواطن في الطاعة ، ولم يعط أي موازنة بين منظومة الحقوق والواجبات على اعتبار كونها كيان سياسي وإطار تنظيمي موسع وناظم لوحدة الدولة وحياتها الجماعية.
لذلك تبقى من أولويات العمل في معركة التغيير، هو إعطاء أولوية للنقاش الفكري أولاً، وأن تختار لنفسها النموذج المعرفي الذي يناسبها قصد بناء نموذج حضاري رصين ،يضمن لهذه الوطن المحافظة على خاصية التعدد والهوية وبالتالي استقلاليته.
إن تماهي دولتنا مع طرح النموذج السائد الحديث ،لم يكن اختيارا مبني عن قناعة فكرية مدروسة، بل قرار نفعي كرس التبعية وتغافل عن الهوية رغبة في الظهور بمظهر المتقمص لأدوات حديثة والتسويق لمنهج فكري حضاري مغترب.
لذلك فتنزيل هذا النسق السياسي الغربي في مجتمعاتنا العربية ،قد يظهر للبعض منتهى الرقي والتمدن وبطرق موجزة ،لكن من منظور موضوعي متجرد، تحتاج هذه الحداثة إلى مراجعة فكرية والنظر إليها من زوايا مختلفة منفتحة على كل ما هو كوني ،تكرس الاختلاف وتضعنا في السياق المنسجم مع حاجاتنا ورؤانا الثقافية والفكرية
لكن للأسف أصبحت اهم منظومة مسيطرة هي تلك الصيغة المعكوسة أي أن الدولة لا تضمن الحماية للمواطن بل أن هذا الأخير هو المجند لحمايتها من أي خطر يهدد استمرارها ؟
وبالتالي ساد منطق الخوض في إشكاليه ترمي إلى تجاوز الدولة في حركات احتجاجية فصار الخيار البديل لخلق التغيير المنشود.
فإذا كانت بنية الدولة الغربية قد اعتمدت التراكم المعرفي الناتج عن جدالات فكرية وثقافية واقتصادية بحثة ،كان لها الوقع في الحياة والمجتمع وبناء الوعي والاستثمار في الإنسان
فان بناء الدولة العربية عامة والمغربية بالخصوص لم يقتصر بناء مؤسساته إلا في الخوض في نقاش عقيم أو على استيراد بليد للإشكاليات الغريبة بكل حذافيرها ،إذ لم يتجاوز الدور في بناء الدولة الوطنية على بناء المؤسسات ، لكن ارتكز دورهم إما :
– على تقليص وتهميش دور المجتمع من الأساس ،و تفكيك البناءات التي تعد مرجعية أولية وأساسية في بناء أنظمة قانونية تحقق الديمقراطية لهذا المواطن وتضعه في صلب اهتماماتها ،نظام يحدد حقوق الإنسان، ضمن برنامج حداثي متميز ومتقدم،
– و على النفخ في سلطة الدولة وخلق كيانات موازية تحابيها في كل سياساتها وقراراتها ،بحيث اتضح جليا أن الضرورة تقتضي وقف هذه المهازل والابتعاد عن وهم ألإصلاح والترميم وإطلاق مشروع البناء
للأسف فان تلك السياسات المغتربة فككت كل البنيات الاجتماعية ، ولم تكن في تناغم مع تلك بنية المؤسسة الأم، مما احدث ازدواجية بين المكونين ، وهذا الوضع أدي في تصورنا إلى تحجيم دورها وتقليل وظائف وفسخ فاعلية المؤسسات المدنية ،وبذلك تجرد المجتمع من كل مؤثراته مما حوله إلى كائن غير فاعل في التنمية ، مكرسا لتأجيل مبادرات الإصلاح فصار الفساد والاستبداد عنوان المرحلة .
إن اعتبار دستور 2011 كبداية للمراجعة والتأسيس ،لم يتم استثمارها أطلقت العنان لمسلسل مشاريع التمويه من ألوان من المبادرات الترقيعية إلى نموذج جديد لم يخرج عن دائرة المشاريع الأشباح ؟
في ظل هذا الفراغ صار الجو مناسبا لماسسه الفساد عوض بناء دولة وطنية ،فأبت كل المؤسسات السياسية والمدنية ،أن تصبح مدينة للتاريخ باعتذار ،ما دامت تعبد الطريق إلا لمشاريع واهمة تصد الأفاق وتكبس على أزرار كل القواعد .
فمتى يا ترى سندق جرس المدنية والتحضر ؟للخروج من سلسلة التذبذب وإقرار القطيعة مع نقاشنا العقيم؟ لنعيد للمثقف مكانته ؟ونفتح الباب لثقافة التقييم وفتح نقاش ذو وعي جمعي وأسئلة متجردة توزع السلط بعدالة وترسم حدودها؟
بدون شك فهذه المحاولات لا يمكن إلا أن تنتج أفكارا ورؤى خصبة تطلق العنان لانساق متطورة تفتح شهية البناء ؟
فمتى نعلن حقا القسم لهذا الوطن ؟
ذ . بوناصر المصطفى