Univers Bounaceur
فضاء الحوار ومنتدى الابداع

مهنة الكاتب: من الإبداع إلى الاتباع..

 مهنة الكاتب: من الإبداع إلى الاتباع..
مشاركة الموضوع


لن أتلفع بمسوح القديس، وأعلنها مرثية تتناقلها الأدمع قبل الألسن، عن موت الأخلاق في زمن التدنيس؛ إنما سألتزم باب داري بالحديث عن الكتابة الأدبية من زاوية أو إبط أفول مفهوم القيمة في الأشياء والإنسان والحياة عموما؛ فهل حقا لا تزال ثمة قيمة للجماليات في زمن غدا فيه الأدب حذاء تنتعله جميع الأرجل في شتى دروب النشر؛ كتابا،جرائد وأنترنيتا بالتحديد؛ لنقل بتعبيرنا الدارج؛ لقد دخلوها جميعا ب «صبَّاطهم» الفوَّاح بروائح الزكام وليس الإبداع؛ وغدا سوق الأدب بخسا لما يعرفه اليوم من فائض في الحبر أخاله ينزف مجانا من كل الرؤوس التي ترتطم عبثا بالورقة الخرساء، فتنبري هذه الأخيرة صخرا؛ لا نثرا ولا شعرا!؛ يأتي ذا الكلم في انبثاق كتاب لا تألوا أسطره سخريةً، من الكاتب، الذي لا يفتأ يَصْدع بلا جدوائية الإبداع، في زمن القردة من أهل الاتباع؛ ويحمل هذا الكتاب ميسم «سأكون كاتبا يا بني» (دار بريل ، 128 صفحة) لمؤلفه الفرنسي «فرانسوا بيغودو»؛ لامراء أن الكاتب تتشظاه حيرة لا تستقر على أرض، حين ينبس بالحديث عن مهنة الكتابة؛ حتى ليسَّاءل؛ هل هو وسيط بغاء أم قديس؛ وذلكم لعمري يكتنف شُبهة أقل واعترافا أكثر؛ يستحيل إذا الجزم بالقول: «إني كاتب» دون أن نكون متبجحين بهذه العبارة، حتى لنحسبنا من فرط الأنا أضخم من بقرة؛ فأن تصطنع هيئة التواضع، وتغض الأعين، سيكون الأمر كما لو أنك تهلل بالضرب على الصدر: «أنا شكسبير الجديد!»؛ فقط يجب أن تحذر من القول: «أبيع قليلا»، حتى لا يرجموك بنعت السيد الصغير المختال الفخور؛ وهلم توصيفا من قبيل، التافه والمزدهي؛ وهما صفتان ستلازمان وظيفة الكاتب، مقابل ذلكم المجد الذي لم يعد يهفهف بشعرة في عالم اليوم الأصلع!؟

فهل الكاتب حقا أكثر فخراً من مربي المحار أو مستعرض الدببة في السيرك؟؛ إنه واقع ليس ببعيد، فأن ينشر الكاتب، يعني أن يزمجر بماكنة الإشهار لشخصه أو في أفضل الحالات، لشكله؛ يمكننا أيضا أن نثني على هذا الجهد الطموح؛ المهم أن الرهان بالنسبة للكاتب، يبقى كامناً في الانوجاد خارج كتبه، إلى جوار كتبه، بين كتبه؛ فكيف إذاً يمتشق هذه الوضعية؟؛ يقول الفرنسي «إيريك شوفيار» مستغوراً مؤلف «ستكون كاتباً يا بني»؛ إن كاتب هذا العمل «فرانسوا بيغودو»؛ ما فتئ يتمرأى منذ سنوات في المشهد الأدبي؛ يكتب في السياسة، الكرة، الموسيقى، السينما، والأدب، يشغل الساحة في طولها وعرضها وحتى في شكلها المنحرف؛ ألمعي، مجادل، فاحم، ذكي، غاضب؛ ويتحرك تماماً تحت تلكم الكرة متعددة الأوجه، بحيث يعسر إيقاف كل مايتلبَّسه من أحكام؛ ويعتبر مؤلفه «ستكون كاتباً يا بني» الصغير والسريع، عملا حاسماً ولكنه وقح؛ ينوس بين التنكيت والتبكيت؛ حيث تتساوى القيم والأخطاء، دون أن يلغي بعضها بعضاً؛ وقد سدد في السويداء، فأصاب بالسخرية الفضائحية من تمثال الكاتب المتبدي منذ ردح طويل، راقداً على الأرض بأنفه المكسور؛ لنقل إن هذا الكاتب قد انتثر ضاحكاً بكل ما أوتي من أوراق، من الكاتب، هذا الطائر الخرافي (الفينيق)؛ فالمؤلف يهمس للابن الذي يريد أن يصير حمّال قلم؛ بأنه سيصير كاتباً، فقط إذا تحدث ككاتب، بالإجابة في حوار، وأنه سيخطو على سماء واحدة إلى جوار الأساطير التي تتاخم القبة الزرقاء حيث تقيم ربَّة الجمال الأدبية؛ إن «فرانسوا بيغودو» يلهو بإنجاز لائحة مؤسسي إيديولوجيا الكتابة؛ بحيث نستطيع من خلال حفرياتها العارية، التمييز من الوهلة الأولى بين الكاتب الحقيقي والمزيف؛ فالكاتب الحقيقي في نظر فرانسوا، إنما يسكن في البادية، أو ضواحي المدينة، بينما الكاتب الزائف، يتطاول في علب الليل الباريسية، كاشفا عن كل الأقنعة بالرقص على كل ما ينطق بالصخب وليس بالأغاني؛ هذا الكتاب إذا تزدانه حليةُ الخفة؛ وهو بلاذع النقد، إنما ينقذنا جميعا من ذلكم العشق القاسي للأدب؛ فقد يقول كل شيء دون حاجة لرقابة تعلق الأقلام في ربطات العنق أو الإعدام؛ فمؤلف هذا العمل، مسكون فقط بنزعته النقدية، ويجزم أن الكتابة ضرورية أكثر من الدم، الهواء والخبز؛ كما أن الكاتب منذور لنداءات المجتمع، والإعلام، حتى وإن استفرغته اللاجدوى من جوهر الحياة؛ أي الإبداع؛ إن الكاتب توّاق للشهرة، والجوائز الأدبية؛ ولا يمكن الضرب بممحاة النكران، أن الكاتب يتقن التمويه والمكر والاستشراف؛ لنقل إن المؤلف «فرانسوا بيغودو»، لا يختر من الكلمات خرزا نضيدا يصلح للتعليق في الأعناق، إنما غربالا يستعير مصفاة ثقوبه المسنونة في ضيقها، من سِمِّ الإبرة، حتى ليكاد لا يعجبه أي شيء مما يرتسم من أدب اليوم، إلا أمهات الكتب التي منذ ألقمت أثداءها الرؤوم لأفواه التاريخ، لم تغِض أبدا من معين الإبداع؛ وإذ يُلمح هذا الكاتب الذي لا يعجبه العجب ولو كان قلماً يمشي على ماء، إلى «مارسيل بروست» مثلا، فهو يومئ إلى أنه لا شيء مما يُكتب اليوم يعتبر أدباً؛ وأن الحضارة الما بعد حداثية ، تفتقد للمضمون، وليس تترك من اختيار، سوى الإكتفاء بالنظر العزيز إلى الكتب؛ فماذا قلت يا بني؛ أما زلت تريد أن تصير كاتباً….؟

0إعادة النظر

إقرأ أيضاً ...

2 Comments

  • تحيات المحبة والتقدير لكل طاقم التحرير على هذا المجهود الاعلامي الباذخ. المواضيع متنوعة وغميسة، تغري بالمتابعة.
    لكم مني كل التقدير.

    • شكرا على عبق مرورك الطيب استاذ انس

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *