المجتمع المدني بالمغرب الوضعية والافاق

ذ . عبد الله ساعف
بعد مرور حوالي ثمان سنوات على الربيع العربي والمصادقة على دستور 2011، كيف يمكن أن تكون وضعية المجتمع المدني في المغرب؟ أو بالضبط كيف يمكن أن يكون اليوم حال الحركة الجمعوية المغربية، سواء على المستوى المحلي (حيث نجد وضعيات محلية متنوعة) أو على الصعيد الوطني؟ وما هي الآفاق المستقبلية؟
إن ما يميز الوضعية الحالية هو هيمنة الثقافة القديمة التي تنظر إلى المجتمع المدني كفاعل “غير مهيكل” يتم التعامل معه عبر ميكانزمات مرتخية جدا للمعلومة أو للاستشارة. ملامح هذا المجتمع المدني كفاعل من أجل التغيير أصبحت بعيدة عن الوضوح، كما أنه يتميز بتوجهه الملحوظ نحو التكتلأو على الأقل نحو تفاعلاته الكبيرة كما يقعمثلا خلالعملية ملاحظة الانتخابات، أو الترافع لصالح / أو ضد قوانين معينة،أو بمناسبة خوض رهانات تتعلق بقضايا المناخ والهجرة وحقوق الإنسان وغيرها… هذا التوجهنحو التكتل يبدو وكأنه يتعرض للمضايقة، بل يبدو وكأنه يتعرض في الواقع لتقييد يتزايد أكثر فأكثر، بل ويتعرض حتى للرفض. هناك توجه نحو إنشاء تكتلات كبيرةللمنظمات غير الحكومية كما لاحظنا ذلك خلال الحوارات الوطنية الكبرى، أو المنتدى العالمي لحقوق الإنسان، أو مؤتمر المناخ بمراكش كوب 22، أومؤتمر الهجرة..لكن حجم هذه التكتلات صار يتضائل بشكل يشبه كرة فرغت من الريح.
إن ما يسود اليوم هو التفتت، والنزعات المحلية، والنزعات المسطرية الإدارية، وكذا تقلص فضاء العمل. وما يفرض نفسه اليوم هو عجز الجمعيات عن أن تفرض نفسها كقوة جماعيةللعمل من أجل التغيير.
وهناك توجه سلبي آخر يتمثل مجددا في نوع من تأميم الدولة للحركة الجمعوية:فكما كان الحال في ظل العهد السابق عندخلق جمعيات جهوية خلال سنوات الثمانينيات (كانت تسمى جمعيات الوديان والهضاب والسهول)، عشنا في العقد الأول من هذا القرن موجة إنشاء جمعيات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وجمعيات الأحياء، وموجات لجمعيات شبه إدارية أو شبه حزبية تظهر بانتظام كقوة داعمة للتظاهرات التي تنظمها الدولة. ربما كان من خطأ النضالات الديمقراطية أنها تركت المجال فارغاأمام ما هو تافه،عوض أن تواكب هذه الحركة بل وأن تعمل على تملكها.
هجر الحركة الجمعوية مؤسسوها وناشطوها الذين قرروا في مرحلة معينة من مساراتهم،تثمين تجاربهم التي راكموها على أرض الميدان والتعاطي للخبرة. ولعله من الصعب جدا أن نتناول هذا الجانب من واقع الحركة الجمعوية المغربية بدون أن نتوقف عند الحالات الفردية و ماتمثله من عمليات للدخول وللخروج إلى سوق الخبرة أو الإستشارة، أوأن نتوقف عند حالات أولئك الذين أنشئوا مكاتب للإستشارة الخاصة ذات القدرات التنافسية، أو أصحاب النضالات الجمعوية المتعثرة… إنمن يقود منظمات غير حكومية هامة مثل ترانسبارنسي (منظمة محاربة الرشوة) هم مناضلون، وهم في نفس الوقت خبراء في البنك الدولي، أو مستشارون يعملون لحسابهم الخاص.
مما لا شك فيه أن هناك أزمة لتجديد النخب (هل يمكنأن نسميها “نخب جمعوية” أو فقط “أطر جمعوية” في ظل أزمة عميقة للرؤية العامة؟).بحيث أننا صرنا كمن “يبحث عن إبرة وسط كومة قش”. وفي نفس السياق، وبعد حملات المغادرة الطوعية، وتعويضات هيئة الإنصاف والمصالحة، صار قدماء العمل الجمعوي يتعاطون لأنشطة مربحة على العموم، ولم يعد لديهم الوقت للتعاطي بشكل كامل وبدون تحفظ للنضال الجمعوي كما كانوا يفعلون في السابق، لكنهم في نفس الوقت، لا يريدون أن يتركوا مواقعهم القيادية. لقد تم تسجيل انحرافات جمعوية تتميز بالبحث عن الربح، وتم تسجيل عدم انسجام في سلوكيات ومسارات البعض منهافي أماكن عدة عبر التراب الوطني مثل المحمدية، والناظور، وطنجة وأكادير، وزاكورة وغيرها ..
وهناك خاصية أخرى هي السياق السياسي الذي يتميز بوجود تشكيلة حكومية لا تستجيب بشكل كامل للمعايير الديمقراطية. فجمعيات “الصف الديمقراطي”صارت تتفاوض وتتوصل إلى توافقات مرحلية مع أعداء الأمس،وأبناء اليسار والفاعلون في هيئة الإنصاف والمصالحة الذين كانواقد بلوروا نوعا من ثقافةبناء علاقة خاصة بين الدولة والمجتمع أصبحوا تائهين.لقد سبق لعدد من الجمعيات أن شاركت في منتدى فاس حول المجتمع المدني في أواخر التسعينيات، لكن ذلك كان قد تم وقع في عهد حكومة التناوب. إن الذين يريدون اليوم إعادة استنساخ هذا النموذج هم مخطئون لأن المكونات، والفاعلين، والتمفصلات، والمعنى لم تعد كما كانت سابقا. لقد تغيرت المعطيات،ولم يعد الأمر يتعلق بمجتمع مدني يقول هذا أبي.
ما يمكن تسجيله أيضا ضمن الملامح الأخرى للمرحلة الحالية هو غياب قطائع إبستميمولوجيةبين اللحظات الجمعوية والحركات الإجتماعية، وبين الحركات الاجتماعية واللحظات المدنية: أي أن المرور من وضعيةحركة جمعوية إلى وضعيةمجتمع مدني، ومن وضعيةمجتمع مدني إلى وضعيةحركات اجتماعية ليس واضحا ومتميزا. وهو ما ينتج الخلط،والخليطسواء على المستوى التنظيمي، أو الفلسفي، أو الممارسة العملية (البراكسيس)، وكذاعلى مستوى التقارير الخاصة بالسياسات العمومية. بحيث أن الفاعل الجمعوي صار يغير من مواقعه بحسب تغير الأوضاع .
وإلى هذا المشهد العام، ينبغي إضافة الإستراتيجيات الجديدة للمانحين والممولين الذين ساهموا في ارتباك وتشويش عمل الجمعيات وحولوها إلى هيآتتقدم الخدمات. إن الخيارات السياسية للمانحين أصبحت تتركز على الإدماج السلمي للإسلاميين،بحيث أنها خيارات تفرض موضوعات لا يبدو أنها تشكل أولويات للمجتمع المغربي كالقضاء على التطرف مثلا. لقد جعلت الجهات المانحة الجمعيات تتبعها في توجهها هذا، مما منع من بلورة طبيعية لوعي حقيقي. وصارت هذه الجهات توجه الجمعيات وتؤطرها عن بعد بواسطة سياسة طلبات العروض.وهذا هو ما يفسر جزئياً محدودية فرص العمل في الفضاء الجمعوي، وعدم وجود أفراد لهم تخصصات مناسبة لمختلف الحالات والوضعيات الجمعوية،كما يفسر أن الحدود عندما توجد، يتم التعدي عليها بسهولة ومن قبل الجميع.
وأخيرا، وعلى مستوى أكثر شمولية،نسجل أن موجات الديمقراطية التشاركية بلغت اليوم عشر سنوات أو أكثرعلى وجودها. ولكنها لم تتركز، ولم تتأسس بعد بما فيه الكفاية.
للخروج من هذا الوضعية يمكن اقتراح بعض العناصر التالية:
أولا ينبغي أن نقبل بأن تحليل هذه الوضعية هو في حد ذاته خطوة في اتجاه إيجاد مخرج من هذه الأزمة التمثيلية. كما ينبغي تعميق عمليات التشخيص والإكثار منها ومقارنتها. ومن المهم أيضا الإنصات إلى الشارع على اعتباره أنه يعبر عن المجتمع، وكذا إدماج مختلف العناصرفي إطار رؤية عامة.
يبدو من الضروري تدشين قطيعة مع السلطات ومع الدولة العميقة،وبناء علاقة أخرى مع المؤسسات. فالدولة نفسهاصارت تتعرض لهزات قوية من قبل الحركات الإجتماعية. كماأنها منزعجة بسبب إضعاف الأحزاب، وانفجار شظايا الحركات الإجتماعية، وموجات تراجع الإنتماء النقابي، وما تعرفه المركزيات النقابية من تجاوز بسبب الإحتجاجات التي أصبحت تتم خارج هياكلها. ومع ذلك، تبقى إحدى أهم الرهانات هي أن نجعل الدولة تتحرر من توجهها نحو تفضيل نزعاتها السلطوية / الأمنية، وأن تبني علاقة توازن أفضل مع متطلبات موقف أكثر ديمقراطية.
إن الحركة الجمعوية هي إحدى رموز الديمقراطية التشاركية، لكن التفعيل الكامل لهذه الأخيرة لن يكون قابلا للتصديق إلا إذا استند إلى مؤسسات الديمقراطية التمثيلية. لقد كان البرلمان في كثير من الأحيان ساحة للمرافعات وللمعارك المدنية خلال السنوات الأخيرة. وعليه أن يعود اليوم إلى ما كان عليه. فالغرفة الأولى أصبحت اليوم وكأنها منغلقة على النقاشات الموجودة خارج البرلمان، والغرفة الثانية صارت تشتغل مثل منظمة غير حكومية. بحيث أن المؤسستين تبدوان وكأنهما تعطيان ظهريهما للنقاش العمومي الذي تبقى له شرعيته.
كما ينبغي إعادة بناء القوة المدنية وتجاوز الأنانية التنظيمية من أجل بلوغ ممارسة جماعية، وإعادة بناء قدرات التجديد عند الفاعلين المدنيين. ومن الواجب هنا تجديد روح “نداء الرباط”. ويبدو أنه من الضروي إيجاد طريقة لتجميع الحركة الجمعوية، وإعادة إطلاق الأفكار، وإنشاء حركة حقيقية في مواجهة السياسة، وكذا بناء حركات موضوعاتية يمكن أن يكون لها تأثيرحاسم ضمن رؤية شمولية مقنعة سوءا في مجالات السياسة المدنية، أوحقوق الإنسان، أوالأبعاد الجيوسياسية ؛ الخ …
ولهذا على الحركة الجمعوية أن تبذل كل طاقاتها من أجل خلق فضاء مبني على التفاوض والتأمل والتشاور. إن الأمر يتعلق هنا، وفي إطار أفق له برنامجه، بتطوير هيئات الوساطة من أجل حل النزاعات المتعددة بين الدولة والمجتمع.
عبد الله ساعف