السم السياسي… مرض قاتل أم جريمة منظمة؟


أمينة خيري صحافية
إيران تسجل 5 آلاف حالة بالمدارس فيما التاريخ مليء بحوادث اغتيال معارضين يلصقها الغرب بالروس وتنفيها موسكو
الحلقات المسلسلة لتسمم الفتيات في إيران مستمرة، فعلى مدى ما يزيد على أربعة أشهر والعالم يطالع أخبار تسمم عشرات أو مئات الفتيات من طالبات المدارس الإيرانيات من دون معلومات غير مسيسة توضح حقيقة ما يحدث.
وسائل الإعلام الإيرانية تقول إن عمليات التسمم الغامضة لا تزال تطال الطالبات الإيرانيات، والمؤشرات تشير إلى أن تلك الحالات تشبه تلك التي تحدث عقب التعرض لأنواع من الغاز أو المواد السامة مسببة إغماء أو شعوراً بالإعياء، ومنها ما يتطلب دخول المستشفى.
أحدث حزمة من حالات التسمم الجماعي وقعت قبل أيام بين مدرسة في مفتكل في محافظة خوزستان جنوب غربي إيران، وخمس مدارس في أردبي ومحافظة أذربيجان الغربية في الشمال الغربي.
الحصيلة الرسمية الصادرة عن الحكومة الإيرانية تشير إلى تسمم ما يزيد على 5 آلاف طالبة داخل 230 مدرسة في 25 محافظة تشكل أغلب محافظات إيران البالغ عددها 31 محافظة.
ملف إيراني غامض
ملف التسمم الجماعي الغامض مثار شد وجذب بين الحكومة الإيرانية من جهة والعالم من جهة أخرى، وتأرجح ردود الفعل المقبلة من إيران تراوحت بين معلومات أولية غير مؤكدة تشير إلى استخدام مواد سامة مثل الـ “نفثالين”، وبين اتهامات للمعارضة بأنها من تقف وراء وقوع هذه الحالات، وأحياناً إلى الطالبات أنفسهن بأن ما يجري لا يخرج عن كونه شغباً بهدف إغلاق المدارس أو إلى أجهزة استخباراتية أجنبية، وتصريحات في البداية لمّحت إلى نفي وجود حالات تسمم من الأصل.
من جهتها تتهم أو تلمح جهات معارضة وناشطون ودول معادية لطهران ان الحكومة الإيرانية من يقف وراء التسمم، سواء كعقوبة جماعية على محاولات الإناث التحرر من القيود أو الجرأة على الاحتجاج أو للضغط من أجل إغلاق مدارس البنات.
وعلى رغم عدم الإعلان الرسمي بعد عن حقيقة ما يجري، إضافة إلى عدم توافر معلومات حقيقية تؤكد أو تنفي ضلوعا رسمياً أو حتى من قبل المعارضة ربما لإحراج النظام الإيراني لحالات التسمم الغريبة، إلا أن “مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان” بادرت في منتصف الشهر الماضي إلى التنديد بـ “التسمم المتعمد لطالبات المدارس في إيران والذي هو دليل آخر على استمرار العنف ضد النساء والفتيات”، بحسب عنوان البيان.
التسمم السياسي
المفوضية تقول إن خبراء الأمم المتحدة عبروا عن غضبهم جراء حالات تسمم الطالبات الإيرانية “وفشل الدولة في حمايتهن، بل وإنكار السلطات حدوث حالات تسمم حتى وقت قريب”، وأشارت إلى “الشعور بالقلق العميق تجاه الصحة الجسدية والعقلية لهؤلاء الطالبات وقدرتهن على التمتع بحقهن الأساس في التعليم”، كما عبرت عن تخوفها من أن يكون هذا العقاب يدار لمعاقبة الفتيات على مشاركتهن في حركة ’المرأة والحياة والحرية‘ وللتعبير عن معارضتهن للحجاب الإلزامي”.
تسميم آلاف الطالبات من قبل الحكومة عقاباً لهن على الحلم بالحرية أو المشاركة في المطالبة بالحق في تقرير حق ارتداء الملبس أو ترهيباً لهن لإثنائهن عن المشاركة، وربما من قبل المعارضة أو جهات “أجنبية” لإحراج الدولة ليس التسمم الجماعي أو التسمم السياسي الأول في التاريخ.
أليكسي نافالني
تاريخ الكوكب حافل بعمليات عدة من هذا النوع، منها ما تأكد ومنها ما تصر الجهات المتهمة على إنكاره، ومنها ما يظل عالقاً في أجواء التسييس، وليس هناك ما هو أكثر تسييساً من إصابة معارض سياسي بارز بالتسمم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر ثارت شكوك لا أول لها أو آخر حول إصابة المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني بالتسمم في صيف عام 2020، إذ نقل نافالني الملقب بـ “زعيم المعارضة الروسية”، وهو أبرز معارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المستشفى بعد شعوره بتعب مفاجئ وهو على متن رحلة عائداً من سيبيريا إلى موسكو، وظل راقداً في مستشفى نقل إليه من روسيا إلى ألمانيا في حال خطرة وفاقداً الوعي بعد أن ظهرت عليه ما يشبه أعراض التسمم.
وقالت المتحدثة باسم نافالني حينها إنها ترجح أن يكون قد مُزج السم بكوب من الشاي احتساه في وقت سابق ذلك اليوم، وأن جسده على ما يبدو امتص السم بشكل أسرع في السائل الساخن.
لكن نافالني تعافى تماماً بعد نحو شهر، وقالت الحكومة الألمانية أن المعارض الروسي البارز تسمم بمادة تؤثر في الأعصاب اسمها “نوفيتشوك”، وتعني بالروسية “القادم الجديد”.
هذه المادة عبارة عن توليفة من المواد الكيماوية التي يعتقد أن الاتحاد السوفياتي السابق طورها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في معمل بأوزبكستان، والمثير في هذا السم الذي أصبح “سلاح اغتيالات روسي شهير”، كما تؤكد وسائل إعلام غربية عدة أنه يوجد بأشكال صلبة وسائلة، كما أنه يصعب اكتشافه في جسد الضحية.
وأثارت مادة “نوفيتشوك” اهتمام العالم أجمع في محاولة تسميم شبيهة جرت في بريطانيا وتحديداً في مدينة سالزبري التي يعيش فيها المعارض الروسي سيرغي سكريبال وابنته بعد لجوئهما إلى بريطانيا، ففي عام 2018 نجا سكريبال وابنته من الموت بعد أن تعرضا لهجوم بمادة سامة قالت السلطات البريطانية في ما بعد إنها “نوفيتشوك“.
وأشارت التحقيقات إلى أن رجلين يعتقد أنهما عميلان من الاستخبارات الروسية رشا الغاز من زجاجة عطر على باب البيت الذي يقيم فيه سكريبال، وعلى رغم نجاته وابنته ونجاح علاجهما إلا أن امرأة بريطانية التقطت الزجاجة لقت حتفها متأثرة بالسم.
ويشار إلى أن سكريبال خدم في الاستخبارات العسكرية الروسية ووزارة الخارجية الروسية قبل اعتقاله واعترافه بتجنيده من قبل الاستخبارات البريطانية عام 1995، وتقديمه معلومات لبريطانيا حول العملاء الروس في أوروبا في مقابل مبالغ مالية، وحكم عليه بالسجن لكن أطلق سراحه عام 2010 في تبادل للجواسيس بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، ومن بين الجواسيس الروس من لجأوا إلى بريطانيا، ومنهم من تعرض إلى إعياء مفاجئ في دولة اللجوء.
حوادث الإعياء المفاجئ
قائمة حوادث الإعياء المفاجئ التي يقول الغرب إنها محاولات تسميم سياسية روسية دائماً وتنفي روسيا علمها بها دائماً أيضاً طويلة، وتحوي القائمة وفاة الجاسوس الروسي السابق، وفي أقوال أخرى العميل المزدوج ألكسندر ليتفينينكو في لندن عام 2006 بعد تعرضه للتسمم بمادة الـ “بولونيوم-210″ المشعة.
وكان ليتفينينكو ضابطاً في الأمن الفيدرالي الروسي (إف أس بي) وهرب إلى بريطانيا وأصبح معارضاً للكرملين، ثم حصل على الجنسية البريطانية.
وتوفي ليتفينينكو بعد أيام من تسممه عقب تناوله كوباً من الشاي، وخلصت التحقيقات البريطانية إلى أن مقتل ليتفينينكو ربما تم بموافقة الرئيس الروسي بوتين، وهو التحقيق الذي وصفته موسكو بـ “المسيّس”.
فيكتور يوتشنكو ورئاسة أوكرانيا
تسميم سياسي شهير آخر كان ضحيته مرشح المعارضة الأوكرانية لمنصب الرئاسة فيكتور يوتشنكو عام 2004، إذ أكدت تقارير المستشفى النمساوي الذي تلقى فيه العلاج أنه تعرض لتسمم بمادة الـ “ديوكسين” عبر الفم عقب تناوله وجبة العشاء مع أفراد من جهاز الأمن الأوكراني.
الاتهامات كالعادة كانت كثيرة، تارة موجهة ضد السلطة الأوكرانية حينئذ المعارضة لترشحه وأخرى إلى روسيا التي كانت داعمة ومدافعة عن السلطة الأوكرانية الممثلة في الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش.
ويشار إلى أن يانوكوفيتش الذي كان رئيساً لأوكرانيا بين عامي 2010 و2014 طالب روسيا عام 2014 بالتدخل عسكرياً في بلاده “لاستعادة القانون والنظام في أوكرانيا بعد تفشي الفوضى والإرهاب والعنف تحت تأثير الدول الغربية”، داعياً “السيد بوتين إلى استخدام القوات المسلحة لروسيا الاتحادية لإرساء الشرعية والسلام والقانون والنظام والاستقرار والدفاع عن الشعب الأوكراني”.
خالد مشعل وترياق إسرائيل
محاولة أخرى تمت تحت مسمى “الدفاع عن شعب” عبر تسميم شخصية سياسية جرت وقائعها عام 1997، وعلى رغم فداحة التفاصيل إلا أن أحداً على ما يبدو لا يتذكرها، ففي ذلك العام قام شخصان يعتقد أنهما من عملاء “الموساد” الإسرائيلي برش مادة سامة في أذن رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” الفلسطينية خالد مشعل انتقاماً من سلسلة الهجمات الانتحارية لفلسطينيين داخل إسرائيل.
واتسمت تفاصيل التسميم بكثير من الإثارة والسياسة، إذ تمكن حراس مشعل من الإمساك بالرجلين، وتعهد العاهل الأردني الراحل الملك حسين بمحاكمتهما حال مات مشعل، وهي المحاكمة التي كان يمكن أن تؤدي إلى الحكم عليهما بالإعدام حال إدانتهما.
المادة المستخدمة في المحاولة من مشتقات الـ “فيتانيل” بالغة القوة والقادرة على القتل في غضون ساعات، وعلى رغم نقل مشعل إلى مستشفى في عمّان بسرعة فائقة إلا أن حاله تدهورت سريعاً، ودارت كواليس دبلوماسية مكثفة ضمت أميركا والأردن وإسرائيل حيث غضبت أميركا لـ “سذاجة” المخطط وسوء التنفيذ وتهور الفكرة.
وبحسب مجلة “تايم” في مقالة عنوانها “الرجل الذي يطارد إسرائيل” (2014) فقد تلقى المنسق الخاص لشؤون الشرق الأوسط في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، دنيس روس، مكالمة في الصباح الباكر من رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي شرح ما جرى في عمّان.
وبحسب مذكرات روس فقد أبدى الأخير تعجبه من تهور إسرائيل وسأل نتنياهو معاتباً “لماذا لم تحاول حمل الأردنيين على اعتقال مشعل بهدوء مثلاً؟ ألم يخطر ببالك أن شيئاً ما خطأ يمكن أن يحدث؟”.
واندهش روس حين أجاب نتنياهو بالنفي، وما حدث هو أن كلينتون توسط لحل الأزمة في محاولة لإنقاذ اتفاق السلام الرئيس بين الأردن وإسرائيل والذي كان مقرراً له أن يوقع بعد أسابيع، وقدمت إسرائيل “صيغة” أو تركيبة الترياق المعالج للأطباء الأردنيين في ظل انعدام الثقة في تسلم أي ترياق من إسرائيل، وتعافى مشعل وعاد للحياة ليتم تلقيبه من قبل البعض بـ “الشهيد الحي”.
كوريا الشمالية حاضرة
تسميم سياسي فادح آخر جرى في ماليزيا عام 2017 وضحيته هو كين يونغ نام وهو الأخ غير الشقيق لزعيم كوريا الشمالية الحالي كيم يونغ أون وهو، إذ قامت امرأتان برش غاز الأعصاب “في إكس” بالغ السمية على عينيه ووجهه، ليموت الرجل بعد نحو 20 دقيقة، وكان بحسب السلطات الماليزية موتاً مؤلماً جداً نجم عن شلل بالغ الخطورة.
وعلى رغم عدم توجيه اتهام مباشر إلى كوريا الشمالية وزعيمها إلا أن كل ما كتب آنذاك يشير إلى ذلك، فقد فر نام من كوريا الشمالية عقب تولي أخيه غير الشقيق قيادة البلاد متجاوزاً إياه، وكان كثيرون ينظرون إليه باعتباره “الخليفة المتوقع” للوالد كيم يونغ إيل، لكن يبدو أن الوالد غير رأيه بعد القبض على ابنه أثناء محاولة دخول اليابان بجواز سفر مزور عام 2001 “ليزور ديزني لاند في طوكيو”، بحسب ما قال الابن.
ويقال كذلك إنه لم يحتفظ لنفسه برأيه في أخيه الزعيم الحالي بأنه غير مؤهل لقيادة البلاد، فيما تشير تقارير غربية أيضاً إلى تعرض نام لأكثر من محاولة اغتيال فشلت جميعها إلى أن نجح السم في تحقيق المراد.
الـ”ريسين” للمعارض البلغاري وترمب
سم من نوع آخر وهو الـ “ريسين” نال من الكاتب والروائي والإذاعي البلغاري المنشق والمعارض للشيوعية غورغي ماركوف الذي فر من بلغاريا عام 1969 ولجأ إلى بريطانيا، إذ ظل ينتقد الشيوعية بكل حدة وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، فقد شعر بوخزة في فخذه اليمنى من الخلف أثناء توجهه إلى محطة الباصات في طريقه إلى “بي بي سي”، واعتقد أن حشرة لدغته ونظر خلفه ليرى رجلاً يلتقط مظلة من على الأرض ويركض بعيداً. وحين وصل إلى مقر عمله لاحظ بقعة حمراء صغيرة في مكان الوخز ثم تضاعف الألم، وفي المساء أصيب بحمى شديدة ونقل إلى المستشفى حيث فارق الحياة بعد أربعة أيام بسبب تسلل سم الـ “ريسين” إلى جسده.