الإسبرانتو: لغة السلام التي حاربها هتلر وستالين

رئاسة التحرير
في نهايات القرن التاسع عشر كانت مدينة بياويستوك البولندية مركزاً للتنوع والاختلاف، يقطنها البولندي والألماني والروسي واليهودي، لا يتحدث أي منهم إلا لغته الأم، ولا يتعامل مع غيره إلا بحذر وارتياب، وفيها طبيب يهودي يُدعى لودفيك زامنهوف قضى سنوات يحلم بطريقة تتواصل بها المجتمعات المختلفة بسلام وسهولة
في عام 1887م نشر زامنهوف كتابه “الكتاب الأول” يقدم فيه الإسبرانتو للعالم، وهي لغة قضى سنوات يهندسها آملاً أن تنقل الحلم إلى واقع، وتكون سبيل نشر السلام بين الأمم
معظم مفردات الإسبرانتو مشتقة من الإنجليزية والفرنسية والألمانية واليونانية والإيطالية واللاتينية والبولندية والروسية اليديشية؛ وذاك لمعرفة زامنهوف السابقة بهذه اللغات، أما قواعدها فمعظمها متأثرة باللغات الأوروبية، وبعضها يحمل تشابهًا مثيرًا للاهتمام باللغات الآسيوية مثل الصينية.
وبعد 135 عام، نرى أوروبا تتمزق بالعنف من جديد، وبالأخص عنف الحرب الأوكرانية الروسية وهي حرب شكّل النقاش السياسي حول الاختلافات اللغوية دوراً في إشعالها
وللأسف النزاعات على اللغة ليست نادرة حول العالم.
فالأمل بتحقيق السلام عبر لغة مشتركة لم ينتشر على نطاق واسع بعد، ولكن هناك ما يقارب مليوني متحدث بالإسبرانتو حول العالم، وما يزال العدد يزداد ولو ببطء.

صورة لتجمع متحدثي لغة الإسبرانتو يظهر فيها زامنهوف جالساً في الأمام
الإسبرانتو لغة للجميع:
نشأة زامنهوف في مجتمع منقسم متعدد الثقافات دفعته لتكريس حياته لإنشاء لغة تعزز الانسجام بين المجموعات المختلفة. لم يكن استبدال لغته باللغات الأخرى هدفًا له، بل أن تكون لغته لغةً عالمية تعزز التفاهم الدولي وتساعد في خلق السلام.
الإسبرانتو سهلة التعلم… فالأسماء فيها لا تُذكَّر ولا تُأنَّث، أي أنك لا تحتاج إلى أن تشير إلى ”الطاولة” بـ “هو” أو “هي”. كما أنها خالية من الأفعال الشاذة وتكتب كما تلفظ
وضع زامنهوف في “الكتاب الأول” قاموساً و16 قاعدة، وتُرجم الكتاب إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة، وأعلن زامنهوف في بداية كل طبعة تخليه الكامل عن كل حقوق الملكية مؤكداً أن الإسبرانتو مُلك للجميع.
لم تأخذ اللغة طويلاً حتى وصلت آسيا، وشمال وجنوب أمريكا، والشرق الأوسط، وإفريقيا، وفي عام 1905م بدأ محدثوها من جميع أنحاء العالم بالاجتماع مرة كل سنة والمشاركة في مؤتمر الإسبر نتو العالمي لاستخدام اللغة مع بعضهم البعض.
رُشح زامنهوف بين عامي 1907 و 1917 لجائزة نوبل للسلام 14 مرة، ورُشحت مؤسسة أسبرانتو العالمية -وهي منظمة تعمل على بناء العلاقات بين الناس من خلال الإسبر نتو- لجائزة نوبل للسلام أكثر من مئة مرة تقديراً لمساهماتها في السلام العالمي من خلال إتاحة الفرصة للناس من مختلف البلدان ببناء علاقات مباشرة مع بعضهم البعض دون حواجز لغوية.
أُسست عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى على أمل منع أي صراع مستقبلي من النشوب، وبعد إنشائها بوقت قصير اقترح المندوب الإيراني اعتماد الإسبر نتو لغةً للعلاقات الدولية، ولكن المندوب الفرنسي استخدم حق الفيتو مخافة أن تخسر اللغة الفرنسية مكانتها الدبلوماسية، وفي عام 1922م منعت الحكومة الفرنسية تعليم الإسبر نتو في الجامعات لأنها “أداة لنشر البروباجندا الشيوعية”.

وللمفارقة أن الحياة خلف الستار الحديدي لم تكن سهلة لمتحدثي الإسبر نتو، فقد عدّهم الاتحاد السوفيتي جزءًا من منظمة تجسس دولية، واضطهدهم ، ثم قتلهم في حملات “التطهير الكبير” التي نفذها ستالين، أما هتلر فقد رأى الإسبر نتو دليلاً على مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم، حيث تلقت الشرطة السرية في ألمانيا النازية (الجيستابو) أوامر بالبحث عن أبناء زامنهوف، وانتهى الأمر بمقتل أبنائه الثلاثة وعدد من متحدثي اللغة
وبعد هذه المصاعب كلها، أقرت اليونسكو عام 1954م قرارًا برابطة الإسبر نتو العالمية وبدأ علاقة معها، مما فتح الباب أمام حركة الإسبر نتو للحضور في فعاليات اليونسكو المتعلقة باللغة، ثم أصدرت اليونسكو قراراً آخر يشجع الدول على إضافة الإسبر نتو إلى مناهجها الدراسية.
واليوم تقدم العديد من الجامعات الصينية الإسبر نتو كلغة أجنبية، ويوجد في أحدها متحف مخصص للغة، هذا وتقدم جامعة آدم ميكي فيتش البولندية خيار دراسة تخصص اللغات البينية بلغة الإسبر نتو، ومؤخراً أعلنت اليونسكو عام 1985م زامنهوف، وبدأت بنشر مجلتها الرئيسية “رسالة اليونسكو” بالإسبر نتو بجانب لغات أخرى.
اليوم يتحدث بالإسبر نتو عدد كبير من المتحمسين لها من جميع أنحاء العالم، ويمكن تعلمها مجانًا على الإنترنت عبر مواقع وتطبيقات متعددة، منها دولينجو (DuoLingo) وليرن يو (LearnU!)، ويتوفر لها قاموسًا مصورًا ودليلًا كاملًا لقواعدها، كما تستطيع ترجمة جوجل الترجمة منها وإليها، كما يوجد مقالات مكتوبة بالإسبر نتو على ويكيبيديا أكثر مما يوجد مقالات مكتوبة بالدنماركية واليونانية والويلزية!
في لغة الإسبر نتو تعني كلمة “أسبرانتو”: “صاحب الأمل”.
وقد يرى البعض أن الرؤية بقدرة الإسبر نتو على توحيد البشرية رؤية غير واقعية، ولكن حتى أشد الحروب دموية لا تنتهي دون محادثات سلام تستلزم وجود مترجم ليفسر مقصد كل طرف للأخر.
تسائل زامنهوف عما إذا كان ممكناً تقليل العنف عبر لغة محايدة تبني الجسور بين الأعداء؟ وهو ما أتسائله انا أيضًا
فهل صدفة تكون لغة الاسبرانتو قد مهدت للفكر الكوني ؟